الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال في ترك التزوج والولد: وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد، ومن الكلمات المشهورة المأثورة، خير الآباء من علمك.والجواب: هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، فسقطت هذه الشبهات، والله أعلم.المسألة الثانية:قوله: {بالوالدين إحسانا} قال أهل اللغة: تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا، أو يقال: وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانًا.قال صاحب الكشاف: ولا يجوز أن تتعلق الباء في {وبالوالدين} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلًا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته.وقال الواحدي في البسيط: الباء في {وبالوالدين} من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر، وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه، والمثال المذكور ليس كذلك.المسألة الثالثة:قال القفال: لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة، وبحرف إلى أخرى، وكذلك الإساءة، يقال: أحسنت به وإليه.وأسأت به وإليه.قال الله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَى} [يوسف: 100] وقال القائل: وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين: أحدها: أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة.وثانيها: أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة.وثالثها: أنه تعالى لم يقل: وإحسانًا بالوالدين، بل قال: {وبالوالدين إحسانا} فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام.ورابعها: أنه قال: {إحسانا} بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم، والمعنى: وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانًا عظيمًا كاملًا، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ.ثم قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}.وفيه مسائل:المسألة الأولى:لفظ {إما} لفظة مركبة من لفظتين: إن، وما. أما كلمة إن فهي للشرط، وأما كلمة ما فهي أيضًا للشرط كقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} [البقرة: 106] فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول: إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع، لأن قول القائل: الشيء إما كذا وإما كذا، فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد؟وجوابه: أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع، والله أعلم.المسألة الثانية:قرأ الأكثرون: {أَمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} وعلى هذا التقدير فقوله: {يَبْلُغَنَّ} فعل وفاعله هو قوله: {أَحَدُهُمَا} وقوله: {أَوْ كِلاَهُمَا} عطف عليه كقولك: ضرب زيد أو عمرو: ولو أسند قوله: {يَبْلُغَنَّ} إلى قوله: {كِلاَهُمَا} جاز لتقدم الفعل، تقول قال رجل، وقال رجلان، وقالت الرجال، وقرأ حمزة والكسائي: {يبلغان} وعلى هذه القراءة فقوله: {أَحَدُهُمَا} بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين و{كلاهما} عطف على {أحدهما} فاعلًا أو بدلًا.فإن قيل: لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيدًا لا بدلًا، فلم زعمتم أنه بدل؟قلنا: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدًا للاثنين فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلًا.فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال قوله: {أَحَدُهُمَا} بدل، وقوله: {أَوْ كِلاَهُمَا} توكيد، ويكون ذلك عطفًا للتوكيد على البدل.قلنا: العطف يقتضي المشاركة فجعل {أحدهما} بدلًا والآخر توكيدًا خلاف الأصل، والله أعلم.المسألة الثالثة:قال أبو الهيثم الرازي، وأبو الفتح الموصلي، وأبو علي الجرجاني: إن كلًا اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة.والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلي الرجلين بكسر الياء كما تقول: بين يدي الرجل و{من ثلثي الليل} [المزمل: 20].و{يا صاحبي السجن} [يوسف: 39، 41].و{طرفي النهار} [هود: 114] ولما لم يكن الأمر كذلك، علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة، فإذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} [مريم: 95] وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائمًا قال الله تعالى:{كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] ولم يقل آتتا، والله أعلم.المسألة الرابعة:قوله: {يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} معناه: أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر.واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء:النوع الأول: قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} وفيه مسائل:المسألة الأولى:قال الزجاج: فيه سبع لغات: كسر الفاء وضمها وفتحها، وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش: كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري: من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج: {أُفّ} بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و{أُفّ} بضم الألف وتسكين الفاء.المسألة الثانية:قرأ ابن كثير وابن عامر: بفتح الفاء من غير تنوين، ونافع وحفص: بكسر الفاء والتنوين، والباقون: بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات، وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء {أُفّ لَّكُمْ} [الأنبياء: 67] وفي الأحقاف: {أُفّ لَّكُمَا} [الأحقاف: 17] وأقول: البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة، فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟
|